تذكار أبينا المعظّم القديس مارون

المشرف: ابو كابي م

صورة العضو الرمزية
أبو الياس
المدير العام
المدير العام
مشاركات: 83
اشترك في: الأربعاء فبراير 18, 2009 9:30 pm

تذكار أبينا المعظّم القديس مارون

مشاركة غير مقروءة بواسطة أبو الياس »

croseL مار مارون croseL



9 شباط تذكار أبينا المعظّم القديس مارون

صورة
أبُ الطائفة المارونية
أشرقت أنواره على جبال قورش شمال سورية، فهدَت النفوس إلى الحق، يوم كانت البدع تعبث فساداً في تلكَ الأنحاء. أبو الطائفة المارونية ورافع لواء إيمانها وأمجادها مدى الأجيال. إن العلاّمة المؤرخ الشهير تيودوريطوس أسقف قورش في كتابه "تاريخ الرهبان والنساك" يأتي على أعمال المتنسّكين العظام، وفي طليعتهم "مارون الإلهي" كما يسمّيه.
"لقد زيّنَ مارون، يقول المؤرّخ، طغمة القديسين المتوشّحين بالله ومارس ضروب التقشّفات والاماتات تحت جو السماء، دون سقف سوى خيمة صغيرة لم يكن يستظلّها إلاّ نادراً.
وكان هناك هيكل وثنيّ قديم، فكرّسه مارون، كما يقول تيودوريطوس وخصّصه بعبادة الإله الواحد، يحيي الليالي بذكر الله وإطالة الركوع والسجود والتأملات في الكمالات الإلهية، ثم ينصرف إلى الوعظ وارشاد الزائرين وتعزية المصابين.
كل هذا لم يكتَفِ به مارون، يضيف المؤرّخ، بل كان يزيد عليه ما ابتكرته حكمته جمعاً لغنى الحكمة الكاملة، لأن المجاهد يوازن بين النعمة والأعمال فيكون جزاء المحارب على قياس عمله. وبما أنّ الله غني كثير الاحسان إلى قديسيه، منحه موهبة الشفاء فذاع صيته في الآفاق كلها فتقاطر إليه الناس من كل جانب. وكان جميعهم قد علموا أن ما اشتهر عنه من الفضائل والعجائب هو صحيح، وبالحقيقة كانت الحمى قد خمدت من ندى بركته والأبالسة قد أخذوا في الهرب والمرضى كلّهم بَرئوا بدواء واحد هو صلاة القديس، لأن الأطبّاء جعلوا لكلّ داء دواء، غير أن صلاة الأولياء هي دواء شاف من جميع الأمراض. ولم يقتصر القديس مارون على شفاء أمراض
الجسد بل كان يبرئ أيضاً أمراض النفس. ويختم الأسقف الكبير بقوله: "والحاصل أن القديس مارون أنمى بالتهذيب جملة نباتات للحكمة السماوية وغرس لله في هذا البستان فازدهر في كل نواحي القورشية".
اعتزل مارون الناسك الشهرة واختلى على قمة جبل، فشهرته أعماله التقوية وانتشر عرف قداسته. والقديس يوحنا فم الذهب ذكره في منفاه وكتب إليه تلك الرسالة النفيسة تحت عدد 36، العابقة بما كان بين الرجلين من محبة روحية واحترام وأخوّة في المسيح قال:
"إلى مارون الكاهن والناسك. إنَّ رباطات المودة والصداقة التي تشدّنا إليك، تمتلك نصب عينينا كأنك لدينا، لأنّ عيون المحبّة تخرق من طبعها الابعاد ولا يضعفها طول الزمان. وكنّا نودُّ أن نكاتبك بكثرة لولا بعد الشقَّة وندرة المسافرين إلى نواحيكم. والآن فإنّا نهدي إليك أطيب التحيّات ونحب أن تكون على يقين من أنّنا لا نفتر من ذكرك أينما كنّا، لما لكَ في ضميرنا من المنزلة الرفيعة. فلا تضنَّ أنت أيضاً علينا بأنباء سلامتك، فإن أخبار صحّتكَ تولينا، على البعد أجل سرور وتعزية في غربتنا وعزلتنا فتطيب نفسنا كثيراً، اذ نعلم انّك في عافية. وجلَّ ما نسألكَ أن تصلّي إلى الله من أجلنا". (في مجموعة مين للآباء اليونان مجلد 72 عمود 63).
ما انتشرت سمعة الكاهن مارون الناسك حتى تكاثر عدد الرهبان حوله، فأقامهم أولاً في مناسك وصوامع على الطريقة الانفرادية، بحسب عادة تلك الايام، ثم انشأ أدياراً وسنَّ لهم قانوناً وقام يرشدهم في طريق الكمال. وتعدّدَت تلك الأديار المارونية ولا سيما في شمال سورية، حتى أنّ تيودوريطس يغتبط بوجودها في أبرشيته.
وكانت وفاة مار مارون سنة 410.
مات القديس مارون متنسكاً عفيفاً، ولكنه لم يمت حتى رأينا أبناءه الروحيين المشرَّفين باسمه، ينتشرون ألوفاً تحت كل كوكب. غير انّ المارونية تركّز كيانها في لبنان وفيه بسقت دوحتها وامتدّت أغصانها إلى أنحاء الدنيا. وما زال أبناؤها، مغتربين ومقيمين، يستشفعون كل حين، أباهم القديس مارون، صارخين إليه:

باسمكَ دُعينا يا أبـانـا وعليكَ وطّدنا رجانـا
كُنْ في الضيقات ملجانا واختم بالخيـر مسعانا.
عن السنكسار بحسب طقس الكنيسة الانطاكية المارونية.

القديس مار مارون
صورة

كثيراً ما كتب المؤرخون والكتّاب عن سيرة القديس مارون الذي ابتكر طريقة العيش في العراء وعن وتلاميذه وشعبه الذين انتموا إلى روحانيته فكراً وروحاً وقداسة. فقد مرّ على وجود الموارنة أكثر من ستة عشر قرناً في هذا الشرق الذي كان وما زال مليئ بالحروب والإنقسامات ورغم كل التغيّرات والإضطهدات التي كثيراً ما ألمّت بهذا الشعب الماروني الذي لم يزل يشهد للقيم الأخلاقيّة والثقافيّة والروحيّة والإنسانيّة التي استمدها من أبيه القديس مارون.

ان المعطيات البشرية وحدها لا تضمن هذا البقاء العجيب للموارنة في لبنان والشرق والعالم . فهناك سرٌ ينبع، ولا شكّ من روحانيّة إنجيلية عميقة الجذور. فالقديس مارون هو تلك حبّة الحنطة التي وقعت في التربة الإنطاكيّة لتنمو وتخصب في بلاد الشرق والعالم. لذلك في هذا العيد المبارك نحن مدعوون إلى أن نعود إلى جوهر هوّيتنا وتاريخنا وجذورنا، لأنه إذا أردت أن تدمّر شعباً فما عليك إلاّ أن تدفعه لكي ينسى تاريخه، فلا سمح الله أن يصحّ فينا هذا القول النبوي!

"ان حبة الحنطة إن لم تقع في الأرض وتمُت تبقى واحدة" لقد اقتربت ساعة تضحية يسوع بنفسه الذي أراد أن يهب ذاته إلى العالم بملء حريته. يُظهر الإنجيلي يوحنا تدخل الذين أتوا يطلبون أن يروا يسوع أي أن يعرفوا مَن هو. وهذا السؤال مطروح منذ بداية إنجيل يوحنا وعلى كل ّإنسان أن يطرحه على نفسه وأن يبحث عن تلك الحقيقة المطلقة."لقد أتت الساعة التي فيها يُمجّد إبن الإنسان".ان يسوع هو حبّة الحنطة التي ستسقط في أرض البشر لتُخصبها.
لقد منح يسوع المسيح بموته على الصليب الإنسان حياة الآب التي تنتصر على الموت. أما ثمار هذه الحياة بالذات فهي الخلود الذي تمنحه، وتمتد هذه الثمار إلى جميع الشعوب دون أيّ تمييز. ويدور كلام يسوع حول التعلّق بالحياة في هذا العالم إذ قال:"من أحب حياته فقدها ومَن رغب عنها في هذا العالم حفظها للحياة الأبدية". وردّد الفيلسوف نيتشه:"من أراد الحبّ رضي بالموت". لذلك لا يستطيع أحدٌ أن يدرك شموليّة خلاص يسوع إذ تمسّك بالحياة الراهنة وكأنها كل شيئ. ومن خشي أن يفقدها ولا يرى سواها يحول تعلّقه بها إلى عدم اكتشاف ما يختبئ وراء الآفاق الحاضرة أي الحياة الأبدية.
فملكوت الله السماوي هو أشبه باللؤلؤة الثمينة التي لا بدّ من بيع كل شيئ لاقتنائها، ولو إن هذا الأمر يفوق بعض الأحيان طاقة تفكيرنا، فإن تحقيقه هو من عمل الروح الذي يعمل فينا. إنها القاعدة الغربية في الحياة المسيحيّة التي يعطينا يسوع نموذجاً عنها في تضحيته من أجلنا. لذلك عندما نتخلّى عن ذواتنا يمتلكنا ذاك الحبّ الإلهي ويجعلنا نعمل أعمالاً تمجّد الآب كما مجدّه القديس مارون. فإنكار الذات هو إذاً جزء لا يتجزّأ من مجد ابن الإنسان.
ان هناك مصير مشترك بين المعلّم والتلميذ، فكما امتدّت تضحية يسوع إلى العالم أجمع من خلال الكنيسة، هكذا امتدت روحانية مار مارون من خلال تلاميذه إلى الشرق كلّه وعالم الإنتشار حيث حلّ الموارنة. لذلك لا بدّ من أن يحيا القديس مارون بروح معلّمه نفسها أي أن يضحي حبة الحنطة التي تموت لتمنح الحياة:"من يخدمني فليتبعني...أن حبة الحنطة ان لم تقع في الأرض وتمت تبقى واحدة، وإن ماتت تأتي بثمر كثير"(يو12/24-25).,
فالقضية واحدة بين يسوع والقديس مارون وبيننا نحن الذي نتبع نهجه اليوم. وهي مجد الآب المتجلّي في هبة الذات التي فيها يكشف الآب عن ذاته للعالم في يسوع ويسوع يكشفها لنا في صفيّه مارون. ان هذا الكشف هو مجد الله الذي تجلّى في حياة مارون وتلاميذه وفي الكنيسة المارونية عبر التاريخ حيث يتجلّى الموت بالقيامة والصليب بالمجد وهذا ما طبع حياة الموارنة في شتّى مراحل حياتهم.
قال يسوع:"نفسي مضطّربة" إنه وقت التجربة العظمى تجربة الساعة الأخيرة. لقد جاء يسوع من أجل تلك الساعة، جاء مرسلاً من لدن الآب ليتبع الإنسان حتى النهاية في سقوطه وعبوديته وفشله ولينتشله من الموت:" لم أتِ إلاّ لتلك الساعة" غير أنه يصعب أحياناً على الإنسان أن يعترف بهذه الساعة.
وسمع الجمع الحاضر هذا الصوت فانقسم على نفسه. قال بعضهم:"أنه دوي رعد" وقال آخرون:"إن ملاكاً خاطبه" هذه هي حالة التأويلات البشرية. لذلك وجب علينا أن نتيقّظ لمرور الله وحركته في مسيرة تاريخنا الذي يكتب تاريخ حياتنا على أسطر ملتوية. فإن التاريخ لهو مساحة مقدّسة نختبر فيها حضور الله فينا وبيننا وهذا فإما أن يكون ضياعاً للذات وإمّا أن يكون سبباً لتحقيقها.
"الصديّق كالنخل يزهر ومثل أرز لبنان ينمي"أبصر مارون ومعنى اسمه "السيد الصغير" النور في سوريا أواخر في القرن الثالث في بلدة قورش التي تبعد عن مدينة حلب نحو سبعين كيلو متراً. زهذ بالدنيا واعتلى جبل قورش بالقرب من أفاميا أي بما تسمّى "براد" اليوم. لقد اعتنق مارون العيش في العراء على قمّة جبل قورش وكان هناك هيكل وثني قديم طهّره من الشياطين وخصّصه لعبادة الإله الواحد، يحيي الليل بالصلاة والسجود والتأمل ثمّ ينصرف إلى الوعظ وإرشاد الزائرين وشفاء المُصابين.
وهبه الله مواهب الشفاء حتى اشتهر في كل تلك النواحي فتقاطر إليه الناس من من كلّ حدٍ وصوب. وما إن وانتشر عرف قداسته حتى تكاثر عدد الرهبان والمتنسّكين حوله فأقامهم أولاً في مناسك وصوامع منفردة ثمّ أنشأ لهم أدياراً وسن لهم القوانين وقام يرشدهم. فتعددّت تلك الإديار المارونية خاصة في شمال سورية ومن ثمّ في شمال لبنان. وكانت وفاة القديس مارون الناسك سنة 410.
كانت طريقة نسك القديس مارون الإقامة في العراء أي في الهواء الطلق تحت السماء على قمّة الجبل صيفاً وشتاءاً ونادراً ما كان يأوي إلى خيمة صغيرة تقي جسمه من الثلوج والعواصف الشديدة إلى أن يعود إلى العراء. هذا ما قاله عنه المؤرّخ تاودوريطوس أسقف قورش:"اعتنق القديس مارون المعيشة في العراء على قمّة جبل كان هيكلاً للأصنام. وأقام فيه مُنشئاً هناك خيمة صغيرة ما استعملها إلاّ نادراً وقد أخذ عنه هذه الطريقة كل تلاميذه".
رسالة القديس يوحنا فم الذهب إلى صديقه مارون:"إلى مارون الكاهن والناسك إن رباطات المودّة والصداقة التي تشدُّنا إليك، تمثلك نصب أعيننا كأنك حاضر بيننا، لأن عيون المحبة تخرق من طبعها الأبعاد ولا يضعفها طول الزمان. وكُنّا نودّ أن نكاتبك بكثرة لولا المشقّة وندرة المسافرين إلى نواحيكم. والآن فإنا نهدي إليك أطيب التحيّات ونحبّ أن تكون على يقين من أننا لا ننقطع عن ذكرك أينما كنّا، لما لك في ضميرنا من المنزلة الرفيعة. فلا تضنّ أنت علينا بإنباء سلامتك، فإن أخبار صحتك تولينا على البعد أجلّ سرور وتعزية في غربتنا وعزلتنا فتطيب نفسنا كثيراً، إذ نعلم أنك في عافية. وجلّ ما نسألك أن تصلّي إلى الله من أجلنا".
نشوء البطريركة المارونية. منذ مجمع خلقدونية سنة 451 تعرّض الموارنة لأقصى الإضطهادات حتى الإستشهاد بسبب إنتمائهم للبابوية في روما ولمجمع خلقدونية وعدم إعترافهم بالمشيئة الواحدة التي كان قد أمنوا بها اليعاقبة. ان رهبان مار مارون كانوا من أخصّ المتمسكين بتعليم المجمع الخلقدوني.
بينما كان الشرق يتمخّض بالحروب والإنقسامات وعندما كان الموارنة يتحمّلون في سبيل عقيدتهم الإيمانيّة أشدّ الإضطهادات حتى استشهد 350 راهباً منهم فقد استطاعوا الموارنة أن ينشئوا البطريركية المارونية ويقيموا عليها البطريرك الأول يوحنا مارون سنة 686 وهذا ما يدعو إلى الغرابة والدهشة كيف أن هؤلاء الموارنة استطاعوا القيام بذلك في تلك الحقبة الصعبة من التاريخ!
لقد ترك الموارنة سهول سوريا الخصبة وأتوا إلى جبال لبنان الوعرة وأخذوا منها مقرّاً حيث أصبح فيما بعد مركزاً للكرسي البطريركي. يقول القنصل الفرنسي ستلهوبر:" وما إن اعتصم الموارنة في الجبال حتى ألفّوا أمّة على نصيب من الإستقلال. فقد تمكّنوا في ظلال جبالهم العالية العصيّة من صد الزحف العربي. حتى أصبح لبنان وكأنه قلعة مسيحية طبيعية، وقد تنظّموا بإدارة إكليروسهم وكبار تلاميذهم تنظيماَ إقطاعياً، وعاشوا في جبالهم مدة طويلة في شبه عزلة".
فأصبحت الكنيسة المارونية إكليروساً ورهباناً وعلمانيين كأنها جماعة ديرية كبيرة تعيش إلى جانب الأديرة والكنائس. لذلك لُقّب على الشعب الماروني "بالشعب الرهباني". يتمحور ويعيش حول الأديرة والكرسي البطريركي في: يانوح، إيليج، قنوبين، الديمان، بكركي.
دور البطاركة الموارنة عبر التاريخ: لقد قام البطاركة الموارنة الذين توالوا على إدارة الكرسي البطريركي منذ يوحنا مارون وأضحى عددهم حتى الآن ستة وسبعون بطريركيا عبر التاريخ بأداور تاريخيّة أساسية في وجود الكيان الوطني لهذا الشعب ونخص منهم السعيد الذكر البطريرك الياس الحويك الذي ساهم في قيام دولة لبنان الكبير سنة 1920.
كان للبطاركة الموارنة دور تاريخي قاموا به كما قام به الإنبياء في العهد القديم وهذا ما نتصفّحه عبر صفحات الكتب المقدسة حيث كان بموازة كل ملك نبي يؤنب ويوبّخ الملك عندما يحيد عن طريق الله ويخالف وصاياه هذا ما ردّده كثيراً سفر الملوك:" فلما رأى أحاب وأخبره فجاء أحاب للقاء إيليا، قال له أحاب:أأنت إيليا مُعكّر صفو إسرائيل؟ فقال له: لم أعكّر صفو إسرائيل أنا بل أنت وبيت أبيك بترككم وصايا الرب وسيركم وراء البعل"(1م18/17).
وهذا ما قام به أيضاً النبي يوحنا المعمدان إذ كان يوبّخ ويبكّت هيرودس الملك عندما تزوج إمرأة أخيه وكان هذا سبباً لإستشهاده:" ذلك بأن هيرودس كان قد أرسل إلى يوحنا من أمسكه وأوثقه في السجن، من أجل هيروديّا آمرأة أخيه فيلبّس لأنه تزوجها. فكان يوحنا يقول لهيرودس: لا يحلّ لك أن تأخذ آمرأة أخيك"(مر6/17-18). لذلك فللنبي كلمة يقولها ويجاهر بالحقائق الإليهة دون أي محاباة ومساومة لأنه المعبّر الوحيد عن مشيئة الله لدى الملوك والرؤساء وجميع الناس.

لذلك فالكنيسة المارونية تقوم اليوم بما قام به الأنبياء آنذاك. فلا هوية سياسية محدّدة للكنيسة المارونية بل هي رمز للسموّ البشريّ البعيد عن المصالح الزمنية.ان مبررات تدخّل الكنيسة في الشؤون الوطنية والسياسية ناتجة عن الخلل القائم في ممارسة السلطة السياسية. ان هذا التدخل يأتي نتيجة الخلل عندما لا تتحقّق العدالة. فالكنيسة تعمل لإحقاق الحق والكشف عن الأخطاء التي ترتكبها السلطة المدنية.

فالكنيسة تلعب دور الضمير الموحي والملهم والمنبّه والمحذّر والموبّخ والمؤنّب. فمن الطبيعي أن يلجأ الناس إليها عندما يشعرون بالمظالم.أما إذا تأمنّت العدالة في تطبيق النظام العام، فإن دور الضمير يصبح أكثر خفاءً ولا يبرز كمنبّه علني، بل يتحرّك مراقباً دورة الحياة العملية. فإن دور الكنيسة هو الحفاظ على الإنسان وتأكيد احترام حقوقه في المجتمع الذي يعيش فيه كعضو فعاّل.

فالكنيسة المارونية هي كنيسة متجذرة في التاريخ والتراث والأرض. لقد عانت حقاً الكثير من الإضطهدات والآلام ولم تزل. هي كنيسة انطاكية النشأة وسريانية الطقس، وقبل كل شيئ هي كنيسة القديسين والأبرار والفلاحين والفلاسفة والعلماء والشهود والشهداء، وما ترسخّت أساساتها إلاّ على دم الشهداء الذين كانوا "بذار القديسين". وهذا الإستشهاد لم يزل حتى يومنا هذا.

فمهما كان الموارنة عرضةً لشتّى الإضطهادات والعذابات ومهما أُستشهد منهم إلاّ إنهم مثل شجرة السنديان التي تُفرخ بعد قطعها على حد قول أشعيا النبي:" وإن بقي فيها العُشُر من بعد فإنها تعود إلى الدّمار، ولكن كالبطمة والبلّوطة التي بعد قطع أغصاانها يبقى جذعٌ، فيكون جذعها زرعاً مقدّساً"(أش6/13).
يقول المرحوم الدكتور شارل مالك:" ألذي يبتدئُ به بلبنان كما أبتدئ أنا به، ويحبّه ويؤمن به، ويعرف قدره في التاريخ وفي ذاته وفي العالم، لا يسعه إلاّ أن يحبّ المارونيةّ من الأعماق. فمّما لا جدل فيه، أنه لولا المارونيّة لما وُجد لبنان". ويزيد أيضاً الدكتور شارل مالك فيقول عن الموارنة:" فإن توانوا وقعنا جميعاً في الخيبة والحيرة والبلبلة وإن حزموا أمرهم واقادوا، اشتدّت عزيمتنا وصرنا جميعاً صفّاً واحداً متراصّاً". أمام هذه الحقائق التاريخية لا يليق بأيّ لبناني وعلى الأخص بأيّ ماروني، إلاّ الخوف والرعدة والتواضع المُرتعش.
نشهد عبر تصفحّنا الكتاب المقدّس أنه عندما بلغ الشعب المختار أرض الميعاد واستقر عليها كان إيمانهم بالله مقياساً لراحتهم وسعادتهم. فإذا ما ضعف إيمانهم تعرضّوا لإمتحانات صعبة ومؤلمة ومصيرية وتشتد وتقسو بقدر جديّة ضعف إيمانهم، وتندثر وتنهزم بقدر قربهم من الله وجديّة علاقتهم وتعلّقهم به كأب وإله في آن. وّإذا ما استوحينا من تجربة الشعب اليهودي المختار في أرض الميعاد حيث كان شقائهم يُقاس بمقدار بعدهم عن الله. نرى بأن من الممكن لهذه المعادلة أن تنطبق على الشعب الماروني التي عاشها في شتى المراحل من تاريخه الذي كان مليئاً بالحروب والاضطهدات الأليمة.
لقد أخطأ الموارنة كثيراً عندما تاهوا عن أصالتهم المارونية ولا سيما في الحقبات الأخيرة عندما أضحوا عرضةً لإحقادهم وطمواحاتهم وفرديتهم فتصرفوا خلاف الموارنة الذين كتبوا بدم الشهادة فعل إيمانهم بالله وبالأرض والإنسان، فهم ملح الأرض:"فإذا فسد الملح فأي شيئٍ يُملّحه؟".
ان البعض من الموارنة يهملون دينهم وإيمانهم بالله وتراثهم الفكري والروحي واللاهوتي والأخلاقي والبعض منهم اكتفى من الهوية المارونية بالبعد الإجتماعي والسياسي. لذلك يقول في هذا المجال الدكتور بولس سروّع:" لقد اختزنت المارونية عبر نيّف ٍ وستة عشر قرناً كنزاً من التراث. فإذا لم يعش الماروني في حاضره ما تسلّمه من ماضيه وإذا لم ينطلق إلى مستقبله معتمداً على ثقة بما يريد في هذا المستقبل فإن الضياع والتشرذم هما واقع الأمر".

فعبر ثقافة الإيمان الماروني نكون موارنة، أما إذا كنا إنتقائيين في الإيمان دون أن نعي جوهر عقيدتنا فلا نلومن أحداً إذا اضمحلّينا. من هنا فإنّ ثقافة الإيمان تضحي حالة ضرورة بل ماسّة كي لا يصبح الإنسان الماروني ورقة في مهب الريح تتنازعه المذاهب والأهواء دون أن يؤثر فيها. فثقافة الإيمان هي أصعب الثقافات وأيسرها في آن معاً. ولا يكون الماروني مارونياً إلاّ إذا اكتملت ثقافته الإيمانية والإنسانية. ان الماروني الحق هو ليس عنصرياً ولا طبقياً ولا إستغلالياً ولا فردياً ولا إنعزالياً متقوقعاً على ذاته، إنه وفي شتى مراحل حياته قد عمل لخير الجميع.
يقول الأب ميشال حايك هناك خمسة براهين على قيامة الموارنة وعودتهم إلى ما كانوا عليه سابقاً.أولاً: إنهم حاضرون في التاريخ منذ أكثر من ستة عشر قرناً. ثانياً: ان ماضيهم المجيد يشهد لهم. ثالثاً: ان الدهر دولاب. رابعاً: التاريخ نطّاح. خامساً: إنهم يؤمنون بالرب يسوع المائت والقائم من بين الأموات". فإذا أردنا العودة إلى تلك الروحانية التي عاشها القديس مارون وتلاميذه والموارنة الأصيلون نحن مدعوون اليوم إلى أن نعود إلى تلك الجذور الروحية والتاريخية ونجاهر بها ونسلك طريق توبة الذهن والقلب التي سلكها مارون وتلاميذه وفي هذا يتجلّى جوهر إيماننا وانتمائنا الحقيقي إلى جوهر جذورنا الإنجيلية والمارونية.
ما يميّز المورانة عن سواهم ليس السلاح ولا السياسة ولا العلوم ولا المال ولا الجاه ولا ارتباطهم بالخارج. ان ما يميّز الموارنة عن سواهم هو إيمانهم بربّهم وإنتمائهم الحيوي إلى روحانية مؤسّسهم القديس مارون التي استمدّها من الجذور الإنجيلية. هذه الروح دفعت بالموارنة ليكونوا عبر التاريخ الطويل شهادة حيّة أمام الآخرين كما عاش مارون وتلاميذه وأباؤنا وأجدادنا القديسيون. فالموارنة لم يكونوا في تاريخهم العريق إلاّ شعب فكر وقيم وأخلاق وصلاة وتضحية وانفتاح على محيطهم. فإذا لم نتميّز بإيماننا وروحانيتنا وثقافتنا وحضارتنا فما الذي نتميز به في محيطنا الذي نعيش فيه اليوم؟
ان عيش الحرية طبعت كل ماروني عبر مسار التاريخ. فالمارونية والحريّة توأمان ما انفصلا أبداً. فكما أن الظلّ يرافق الإنسان كذلك الحرية التصقت بالموارنة لأنها كانت كنزهم في شتى مراحل تاريخهم وكثيراً ما دفعوا ثمنها غالياً. ففي كل ما تقدّم نحن مدعوون عبر كل ما نعيشه من محن وإضطهاد وتشرزّم إلى أن نؤمن أنه من أوجد هذا العجين، لهو قادرٌ على أن يُخرج منه خميراً لعجين جديد، يُكسر خبزه في رحاب هذا الوطن الذي نعيش فيه اليوم.
أسئلة للتأمل والتفكير:
1- ما هو الإنتماء الروحي الذي يربطنا بالقديس مارون؟ هل ندرك ان العودة إلى الجذور المسيحية والإنجيلية هو سلوك طريق التوبة التي وحدها تجعلنا نعود إلى تلك الجذور والروحانية التي عاشها القديس مارون وتلاميذه؟
2- ما هي المارونية وكيف أعيشها اليوم؟ هل ندرك بأن المارونية تميّزت بروح الإيمان والصلاة والتواضع والإنفتاح؟ وهل نعي إنه من يتصفّح تاريخ هذه الكنيسة والحقبات الصعبة التي مرّت بها لا يستطيع إلاّ أن يتملكّه الخوف والرعدة والتواضع المرتعش؟
3- ماذا يعني لنا هذا القول:"أن حبة الحنطة إن لم تمت تبقى مفردة"؟هل ندرك بأن الموت عن أحقادنا وتشرزمنا وكبريائنا وأنانيتنا وعن كل ما يبعدنا عن روحانية الإنجيل، يكشف لنا عن أصالة هويتنا الإنجيليّة التي عاشها مار مارون وتلاميذه من بعده؟

صلاة: نصلّي إليك أيها الإله الذي ارتضيت الموت لتهب لنا الحياة. يا من دعوت صفيّك مارون فزرعت في نفسه الخصبة كلمتك الحيّة وأرسلته بواسطة روحك القدوس ليجسّد تلك الروح الإنجيليّة والنسكيّة في كل الأصقاع المشرقيّة. إكشف عن عيوننا تلك الضبابيّة بشفاعة مار مارون التي باتت تحجب عنّا رؤية تاريخنا واجعل سيرته الوهّاجة تنبض في أرجاء نفوسنا فنموت نظيره عن ذواتنا وندرك ما عاشه وننحني أمام هذا التاريخ المقدّس بالخوف والرعدة والتواضع المُرتعش.

دعنا نخلد إلى توبة الذهن والقلب ونجسّد حريّة إنجيلك في هذا الشرق المتألم لكي نشهد لتلك الحريّة في عراء شرقنا. حرّر حياتنا من كلّ عبودية وطغيان لكي لا تظلّ فوق رؤوسنا سوى خيمة حبّك وحريّة إنجيلك. إجعلنا لك منارة هدىً وإيمان وتسامح في هذا الوطن ليضئ نورنا أما الناس ويروا أعمالنا الصالحة. لك المجد إلى الأبد أمين.


manq:
أبو الياس

أنضموا الينا عبر غرفة نسور السريان بالضغط على الصورة (دردشة, مواضيع,مسابقات,تعارف)صورة

أنضمو الى مجموعة المعجبين بنسور السريان بالضغط هنا
صورة
أضف رد جديد

العودة إلى ”سيرومعجزات القديسين“