مملكة آرام حماة )......

المشرفون: ابو كابي م،مشرف

صورة العضو الرمزية
ابو كابي م
مشرف
مشرف
مشاركات: 2136
اشترك في: الثلاثاء يناير 26, 2010 10:00 pm

مملكة آرام حماة )......

مشاركة غير مقروءة بواسطة ابو كابي م »


مملكة آرام حماة )......
د.علي أبو عساف

أقامت إحدى القبائل الآرامية مملكة في حماة ساهمت كأخواتها في دمشق وأرفاد وشمأل وبيت عديني وجوزن /بيت بحياني، في بناء حضارة المنطقة, وتعرضت مثلها لهجمات الآشوريين مدة قرنين من الزمن إلى أن قضى عليها سرجون /شروكين الثاني 722 ـ 705ق. وحوّلها إلى ولاية آشورية

كانت مدينة حماة وما زالت مركزا ً إداريا ممتازا منذ فجر التاريخ غير أنها لم تصبح عاصمة مملكة إلا في العصور الآرامية. وقد سميت هذه المملكة باسم حماة ولم تنسب إلى القبيلة الآرامية أو جدها مثل مملكة بيت بحياني نسبة إلى جد القبيلة بحياني أو بيت عديني نسبة إلى عديني جد القبيلة .. إلخ.‏

والواقع أننا نستقي أخبار هذه المملكة من الوثائق الآشورية فقط، لأن ما كتبه آراميو حماة عن أحوالهم لم يصلنا بعد، إلا النصب المعروف باسم نصب ذكير أو ذاكر أو ذكور ملك حماة ولعش الذي عثر عليه في تل آفس قرب سراقب. وبضعة نقوش بالخط اللوفي ذات المحتوى الذي لا يتعدى بضعة جمل.‏

كانت مساحة هذه المملكة واسعة، تساوي البقاع التي انتشرت فيها أفراد هذه القبيلة، فقد وصلت شمالا حتى سراقب حيث عثر على نصب ذاكر في تل آفس فتجاورت بالشمال مع بيت عديني التي سيطرت على المناطق الشمالية من الفرات شرقا وحتى بلدة الباب غربا ومع مملكة أرفاد التي امتدت رقعتها من بلدة الباب وحتى حوض عفرين .أما في الشرق، فكانت البادية حتى الفرات مراعٍي تابعة لحماة. ونأخذ علما ً من حوليات الملك الآشوري توكلتي نينورتا الثاني 888 ـ 884 ق.م. أنه استلم فدية مغرية من شيخ بلاد لاقي الخاماتي أي الحموي واسمه حراني وبلاد لاقي امتدت على الخابور الأسفل من تل شيخ حمد في الشمال وحتى مصبه بالفرات .و في حملة أخرى يذكر اسم الشيخ خلمتاي من بيت خالوفة التي كان مقرها في صور على الخابور وهي الآن سورو.و نستنتج من ذلك أن نفوذ مملكة حماة الآرامية قد وصل الفرات والخابور شرقاً. ونستذكر بهذا الصدد ما قاله ملوك آشور في القرن الثالث عشر ق.م.إن القبائل الآرامية كانت تجوب البادية من الفرات وحتى تدمر. وغربا حتى الجبال الساحلية التي وصفت بأنها أراضٍ آرامية. فلا يدهشنا إذن أن تكون البادية قد بقيت في عهدتهم بعد أن كونوا لهم سلطة سياسية في حماة , أو ليست هذه البادية حتى الآن من ربوع حماة تتعاون مع هذه المدينة اقتصادياً.‏

أما في الجنوب فنقدر أن حدودها وصلت منابع العاصي وحسيا وفي الغرب امتدت حتى الجبال الساحلية،و كانت جزءا من أملاكها.‏

تؤكد هذه الحدود أن رقعة هذه المملكة كانت واسعة، وتسيطر على مناطق بلاد الشام الوسطى. غير أن السؤال الذي لا نجد الجواب عليه هو متى وصل الآراميون إلى حماة ؟. تخبرنا الوثائق عن أحوال المملكة بعد قيامها , وليس فيها إشارات واضحة تدل على فجر تاريخها. ورغم ذلك سنحاول في عرضنا هذا الإشارة إلى النقاط التي تهمنا في الكشف على بدايات تاريخ المملكة.‏

يروي كتاب العهد القديم (صموئيل الثاني 8 ـ 9 ـ 10) أن مملكة حماة بقيادة ملكها توعي 1004 ـ 965 ق.م. كانت معادية لمملكة صوبا في البقاع وسلسلة جبال لبنان الشرقية بقيادة ملكها هدد عزر. ولا تنبئنا هذه الرواية بسبب هذه العداوة بين المملكتين. التي سنستنتجها من الأحداث التي وقعت خلال تاريخ المملكتين.‏

لقد ذكرت قبل قليل أن حدود حماة قد وصلت مصب الخابور بالفرات، حيث أسست عشيرة بيت خالوقة مشيخة على الخابور الأسفل ذكرنا من ملوكها حراني وخلمتاي وذلك في مطلع القرن التاسع ق.م. وقد وصف الملكان بأنهما حمويان أو حماتيان. وهذا يعني قبل كل شيء ارتباط عشيرة بيت خالوفة بمقر القبيلة في حماة , التي بسطت سيادتها على المنطقة من حوض العاصي حتى حوض الفرات.‏

هذا في حماة، أما في مملكة صوبا فقد انتقلت السلطة من صوبة، وهي على الأرجح في موقع دير خابية على الأعوج غربي الكسوة، إلى دمشق في عهد رزون بن إيل يدع (تقريبا ً965 ـ 925ق.م) على إثر نزاع بينه وبين هدد عزر انتصر فيه رزون وبادر إلى تحقيق حلم الآراميين في مملكة توحدهم. بقيادة مملكة دمشق التي كانت الوحيدة التي وصفت بأنها آرامية ولقب بعض ملوكها مثل هدد عزر الثاني وحزائيل أنفسهم بملك آرام.‏

وبكل تأكيد فإن سعي دمشق لتوحيد الممالك الآرامية قد لاقى معارضة من حماة التي سعت هي الأخرى لنفس الغرض بدليل أن ذاكر ملك حماة 810 ـ 775ق.م قد ضم إلى مملكته فيما بعد لعش وهي بلاد نوخشي /أي النحاس الآمورية الكنعانية التي سيطرت على المنطقة الممتدة من سراقب شمالاً وحتى خان شيخون جنوباً.‏

إن التنافس بين المملكتين على قيادة الآراميين أوقعهما في عداوة. خلف توعي على العرش ولده يورام/ هادورام الذي عاصر داود الملك (تقريبا ً من 1000 ـ 965ق.م).‏

إذن أخبار هذين الملكين أخذناها عن روايات كتاب العهد القديم. وحسب المعطيات المتوفرة لدينا حتى الآن فقد أعقب توعي ويورام اللذان يحملان اسمين آراميين باراتاس وأرخولين واوراتاميس. ومن نقش لوفي مستنسخ في وقته وجد في محردة ونسخة عنه في متحف استنبول الآن، نعرف أن باراتاس هو والد أرخوليني ويذكر النقش أن هذا الملك قد بنى معبدا ً للربة بخلاتيس أي بعلات ولكن لا نعرف أين .و ربما في إحدى مدن حوض العاصي أو سهل الغاب. كان باراتاس والد أرخوليني ولا نعرف عنه شيئا ً. أما أرخوليني فقد ذكره الآشوريون في سياق تنفيذ الخطة الآشورية بالسيطرة على بلاد الشام.فقد قصد سلمانصر الثالث (854 ـ 827ق.م) في عام 853 مملكة حماة وهاجم ثلاث مدن ملكية لأرخوليني هي: أدينو وبرجا/بركا وأرجانا، فاستولى عليها ونهب أرزاقها ودمر القصور الملكية فيها.‏

ويحسن بنا أن نقف قليلاً عند هذا الخبر إذ إن وصف المدن الثلاث بأنها ملكية أساسه أن هذه المدن كانت مقراً لشيوخ القبيلة وفيها قصورهم ينزل بها الملوك عند خروجهم من حماة. إذ إنه من المسلم به أن الممالك الآرامية كانت اتحادية من عدة عشائر تسيطر على مناطق محددة ولها مقرات وتشارك شيخ القبيلة أي الملك الحكم عن طريق مجلس القبيلة.‏

لقد عصفت هذه الحادثة، أي هجوم سلمانصر على حماة بآراميي حماة، فاستنهض أرخوليني همم مملكة دمشق والممالك الساحلية الشامية. وممالك بلاد الشام الجنوبية وهم دمشق وإسرائيل ومصري (غير معروفة ربما منطقة معرة مصرين) وعرقا وأرواد وجبلة وأشناتو وسيانو والعرب وبلاد عمون ورحوب الذين تحالفوا ضد آشور, فوقعت المعركة بين الآشوريين بقيادة سلمانصر الثالث عام 853ق.م والتحالف بقيادة هدد عزر ملك دمشق. وأرخوليني ملك حماة. وحسب الرواية الآشورية فإن التحالف قد اندحر وانتصر الآشوريون.‏

وهنا يحسن بنا التوقف قليلاً عند بعض الملاحظات:‏

آ ـ لقد دون الديوان الملكي الآشوري هذه المعركة بأشكال عدة فقد نقشت وقائعها في التماثيل وسطرت في الرقم الطينية. لما لها من أهمية بالغة عند الآشوريين. ومحطة هامة في طريق تنفيذ مشروعهم الكبير توحيد المشرق العربي.‏

ب ـ ادعى الآشوريون النصر غير أن سلمانصر الثالث قد عاد إلى آشور بعد انتهائها ولم يطارد الحلفاء المهزومين ويقضي عليهم والسبب في ذلك على ما نعتقد أن النصر لم يكن حاسماً أو أن الملك الآشوري قد رغب في أن يخيف ملك حماة كمرحلة أولى ثم يرغمه على الخضوع في معركة أخرى.‏

وهذا ما نراه في أحداث السنوات القادمة, إذ إن الآشوريين قد عادوا إلى شن الهجمات على حماة إبان الأعوام 849و848و846ق.م مستمرين في استنزاف قوى المملكة فاستهدفوا مدينة استماكو و89 قرية تابعة لها نجهل مواقعها فتحرك التحالف من جديد لمقاومة الآشوريين وهذا ما يدعم وجهة نظرنا أن معركة قرقر قد انتهت بلا غالب ولا مغلوب، وعلى أية حال فإن الآشوريين قد اكتفوا هذه المرة بذكر اسمي هدد عزر ملك دمشق وار خوليني ملك حماة يعاونهم اثنا عشر ملكاً من ملوك الممالك الساحلية أي أن ملك العرب وملك بني عمون وملك إسرائيل قد تنحوا عن المقاومة وخرجوا من التحالف. وفي ضوء الأخبار الآشورية تجنب الآشوريون مهاجمة حماة بعد عام 845ق.م وحينما جرد سلمانصر حملة على خزائيل ملك دمشق عام 841ق.م لم تمر الحملة عبر حماة لينفرد بدمشق وينهك قواها, وبالتالي يضعف حماة أيضاً لم يدرك أرخوليني ولا خليفته أوراناميس مخاطر اللعبة, فوقف على الحياد أثناء الصدام الآرامي الدمشقي والآشوري ويبدو أن ملوك حماة في هذه الأثناء قد التفتوا إلى أحوالهم الداخلية ليقوموا أمورهم. إذ يحتفظ متحف اسطنبول بثلاثة نصب , نقش فيها نص متشابه يفيد بأن أوراتاميس قد أحاط حماة بسور دفاعي. وأتى على ذكر مدينة خوربان النهرية وسكان مدينة خلبا, ونحن نجهل حتى الآن موقعيهما. ولا شك أنهما على العاصي شمال أو جنوب حماة. ليس هذا وحسب, إنما ورد في نصب آخر محفوظ في متحف اسطنبول أيضاً, ذكر لبلاد لاقيه في حوض الخابور ونهاريما أي الجزيرة. ومن هذا نخرج بنتيجة أن حماة قد بقيت على علاقات حميمة مع حوض الخابور الأسفل تقوية لأواصر القربى مع عشائر المنطقة ولأغراض اقتصادية تفيد الطرفين من غير المساس بالمصالح الآشورية. ولابد لي هنا من التنويه أن ارخوليني ووالده باراتاس وخليفته اوراتاميس يحملون أسماء لوفيه, ولم يصل الباحثون إلى رد موحد على السؤال المطروح لماذا؟ والذي يهمنا هنا أنه في بعض مناطق بلاد الشام الشمالية مثل جرابلس وحلب، وتحديدا في أرسلان طاش وتل أحمر قد عثر على نصوص لوفية جنبا إلى جنب مع النصوص الآرامية، وهي ملخص لها ربما لتمكين اللوفيين المنتشرين بين الآراميين من الاطلاع على أعمال المملكة.‏

تؤرخ النصوص اللوفية التي وجدت في محردة، وحماة والرستن في النصف الثاني للقرن التاسع ق.م. وقد عرّفتنا هي وكتاب العهد القديم على أسماء خمسة من ملوك حماة هم على التوالي: توعي ويورام وباراتاس وأرخوليني واورتاميس. شهدت البلاد في عهدهم صراعاً مع الآشوريين ثم هدنة وعلاقات جيدة مع عشائر الخابور الأسفل وما يتصل به من حوض الفرات.‏

وبالمقابل فإن نصب ذاكر أو ذكير الذي عثر عليه في أفس يأخذنا إلى أحوال أخرى عن هذه المملكة.‏

ذاكر هو الملك السادس في حماة وقد أتى بعد أوروتاميس وحكم من عام 810 حتى 775 ق.م على وجه التقريب وأول ما يلفت النظر عند قراءة النص أن ذاكر لم يذكر أسم أبيه خلافاً للتقاليد الآرامية, ولكنه لقب نفسه ملك حماة ولعش, كما فعل الملوك الآراميون في شمأل وجوزن, ونحن نظن أن عدم ذكر اسم الأب مرده إلى أنه كان مغتصباً للعرش مثل خزا يل ملك دمشق الذي لم يذكر اسم أبيه أيضاً. وربما ينحدر من بيت من بيوت مشايخ عشائر حماة الآرامية وليس من بيت أسرة المشايخ الذين حكموا العشيرة.‏

وبعد هذا يتباهى ذاكر كما فعل غيره من ملوك المشرق بأن بعل شمين سيد السموات والأرض, قد أعانة على احتلال مدينة خزرك. يستفاد من الأحداث التي يذكرها النص أن حزرك – على الأقل – في عهد أسلافه لم تكن تابعة لحماة فغزاها هو وضمها إلى مملكة حماة ولقب نفسه ملك حماة لعش.‏

وبعد تدوين اسم ذاكر وفعلته في احتلال خزرك يستطرد النص ويخبرنا أن بر هدد بن خزّايل ملك آرام أي ملك دمشق والمناطق الجنوبية المتاخمة لها وسبعة عشر من الملوك المتحالفين معه ومنهم بيت جوشي في محافظة حلب وقوا بكيليكيا والعمق بسهل العمق وجرجم بمنطقة مرعش وشمأل في حوض النهر الأسود وملّز بمنطقة أضنه. كل هؤلاء أي آراميو بلاد الشام قد تحالفوا ضد مملكة حماة لتحرير خزرك من قبضة ذاكر. فحاصروا مدينة خزرك التي حصنها ذاكر وضيقوا عليها, إلا أنهم ارتدوا عنها, ربما لأن الآشوريين قد تدخلوا لصالح حماة, التي وقفت على الحياد في صراع آشور مع دمشق, فمنعوا التحالف من تحقيق أهدافه وعاد الوضع إلى الاستقرار.‏

ومن خلال هذا الحدث ومكان وقوعه تبرز أهمية إلقاء الضوء على الوضع السياسي للمنطقة, الذي ربما تسبب في وقوعها بين عامي 802 ـ 796 ق.م في عهد الملك الآشوري هددنيراري الثالث 811 ـ 781 ق.م.‏

تحرشت آشور بمملكة أرفاد وكان على عرشها الملك عتر شومكي تقريباً 810 ـ 780 ق.م. وأصبحت المناوشات بين الطرفين شبه دائمة, فانتهز ذاكر ملك حماة الفرصة ليحتل مدينة حزرك ومنطقتها. ونأخذ من المودونات الآشورية أن حزرك قد كتبت حاتاريكا بالنصوص الآشورية وأنها كانت عاصمة مشيخة لوخوتي التابعة لمملكة بتينا بسهل العمق فاحتلتها أرفاد, وهذا يدل على أنها كانت بين مملكة أرفاد ومملكة حماة. ربما في منطقة جسر الشغور. ولم يرض ذاكر عن هذا العمل فسارع إلى احتلالها. وتمكن من الاحتفاظ بها وجعلها المركز الأهم أو لربما العاصمة الثانية للمملكة بعد حماة. ساعد في ذلك أن الآشوريين قد شغلتهم الصراعات الداخلية على السلطة وانتقال العاصمة من مكان إلى آخر بعد وفاة هددنيراري الثالث عام 781ق.م واعتلاء تجلات فلصر الثالث عرش آشور عام 745ق.م.‏

إذن شهد عهد ذاكر ملك حماة ولعش صراعا بين الممالك الآرامية من حوض النهر الأسود شمالاً وحتى نهر الزرقاء جنوباً من جهة , ومملكة حماة ولعش من جهة أخرى , وكان من مصلحة آشور أن تساند معنوياً ملك حماة حتى يبقى على الحياد أثناء غزوها أرفاد, وحتى تضعف أرفاد بخسارتها هذه البلاد.‏

وفي فترة توقف الغزو الآشوري للممالك الآرامية ببلاد الشام, كما أشرنا أعلاه ,انقطعت الأخبار عن حماة بالمصادر الآشورية, ولم نعثر على كتابات من المملكة ذاتها نجد فيها شيئاً عنها. فقد توفي ذاكر عام 775ق.م. وكنتيجة مفترضة لهذا الحدث انشقت المناطق الشمالية عن المملكة, كما يستفاد من وقائع الحرب التي دارت بين تجلات فلصر الثالث عام 738ق.م. وأزيرو ملك شمأل.‏

فقد ساندت تسع عشرة مقاطعة من مملكة حماة شمأل ضد تجلات فلصر الذي انتصر على شمأل وأعوانها, بينما دفع ابني ايلو /عيني ايلو الجزية للآشوريين. ومن دون مؤشرات ثابتة نفترض أن عيني ايلو هذا قد اعتلى العرش عام 750ق.م. أي بعد وفاة ذاكر بربع قرن تقريباً. وكرد فعل على هذا الحدث سارعت حتاريكا /حزرك بإعلان انفصالها عن حماة, وساندت شمأل ضد الآشوريين, الذين تخلوا عنها عندما احتلها ذاكر. والجدير بالذكر أن الملك في حماة بقي ثابتاً على موقف ملوك حماة من تجنب الصراع مع الآشوريين. إلا أن المصالح الآشورية ومصالح مملكة حماة قد تنابذت في عهد يوبي ادي خليفة عيني ايلو الذي حكم تقريبا من 730 ـ 720ق.م. ووصف بأنه مغتصب للعرش, وقد عايش احتلال أرفاد وتحويلها إلى ولاية آشورية وكذلك شمأل ودمشق.‏

ومرة أخرى استغل يوبي ادي الصراع السلطوي في آشور بعد وفاة تجلات فلصر الثالث عام 727ق.م واعتلاء شاروكين /سرجون الثاني 722 ـ 705ق.م. عرش آشور فاستنهض همم الآرامين في ارفاد ودمشق وغيرها من الأقاليم , واستفاد أيضا , من مساندة ملوك مصر فتمرد على سلطة ملوك آشور وبعد عامين من اعتلاء شاروكين الثاني العرش أي في عام 720ق.م. التقى الآشوريون والآراميون بقيادة يوبي ادي أيضاً في قرقر, فحدثت معركة قرقر الثانية انتصر على أثرها شاروكين ورحّل أهل حماة إلى آشور وسكّن مكانهم آشوريين وحول حماة إلى ولاية آشورية, وكنتيجة حتمية لذلك انتهى حكم الآراميين لهذه المدينة وأصبحت ولاية آشورية.‏

وأخيراً أجمل القول في مملكة حماة, التي تأسست عند نهاية الألف الثاني ربما عند نهاية القرن الثاني عشر قبل الميلاد, بمدينة تعود أقدم آثارها إلى الألف الخامس ق.م. وكانت ذات شأن في حضارة المنطقة ومركزاً إداريا ممتازاً خولها أن تصبح المقر الرئيسي لمملكة امتدت شرقا ًعبر البادية حتى الفرات أي إلى ذلك الجزء الذي يصب فيه نهر الخابور, والذي استقرت في حوضه الأسفل عشيرة بيت خالوفة, وهي من عشائر آراميي حماة. فوصف شيوخها بالحماتيين أو الحمويين أما في الشمال فقد وصلت معرة النعمان وجسر الشغور وفي الغرب الجبال الساحلية وفي الجنوب تل النبي مندو وربلة ومنابع العاصي وحسيا وساهمت كغيرها من القبائل الآرامية في حضارة البلاد التي تعاملت مع بعضها بروح عشائرية ولم تتوحد, بل تنافرت أحيانا وتسالمت أحيانا أخرى, ولم تقاوم المشروع الآشوري منذ بدايته بجبهة موحدة, إنما قابلته بعد أن مر بخطوات كبيرة, فكانت معركة قرقر الأولى. وبعدها لزمت مملكة حماة جانب الحياد وتخلت عن مقاومة الآشوريين, والتفتت إلى مصالحها الداخلية. في النهوض بمدنها واقتصادياتها.‏

عاش الآراميون في هذه المملكة مع اللوفيين, وإن كانت السلطة السياسية بيد الآراميين فقد كان للوفيين أيضاً دور بارز في حضارة المملكة والشاهد على ذلك النقوش اللوفية التي وجدت في قلعة المضيق ومحردة وحماة والرستن خلفها ثلاثة ملوك حملوا أسماء لوفية. ربما لأن آباءهم قد استحسنوا ذلك فسموا أبناءهم بها. وهذه عادة مألوفة بين الشعوب. وأخيراًُ خضعت حماة أيضاً للآشوريين وتحولت إلى ولاية آشورية يديرها آشوريون منذ عام 720ق.م. وقد هجر أهلها ربما فقط شيوخ العشيرة إلى آشور وحل محلهم آشوريون.‏

بعد أن استعرضنا المعلومات التاريخية المأخوذة من الوثائق الآشورية وكتاب العهد القديم والنصوص اللوفية والآرامية المحلية والمتعلقة بتاريخ حماة الآرامية نعرض نتائج التنقيبات الأثرية.‏



نتائج التنقيبات الأثرية:‏

لفتت قلعة حماة انتباه الرحالة والباحثين الذين زاروا المدينة أو مروا بها لموقعها الجغرافي المميز. فالتل الذي يخبئ تراثها الحضري يشمخ فوق رابية طبيعية، تشرف على حوض العاصي، وهو معلم جغرافي يرشد القادمين من بعيد إلى موقع المدينة .وما لبث هذا الاهتمام بالموقع إلى أن تحول إلى خطوة فعلية، خطاها العالم الدانماركي إن ـ كولت في مطلع الثلاثينات من القرن الماضي، حينما بدأ التنقيب عام 1931 واستمر حتى عام 1938 في التل وبهذا يكون العمل الأثري في حماة قد بدأ مبكراً والدافع إليه الكشف عن آثار المدينة التي تردد اسمها في الوثائق القديمة وخاصة الآشورية من عصر المملكة الآشورية الثالثة أي الأخيرة. في حين أن التنقيب في ماري وأجاريت قد بدأ على أثر اكتشاف تمثال للرب شمش في تل الحريري/ماري مصادفة وقبر في مينة البضا على الساحل جوار تل رأس الشمرا /أجاريت .‏

أعاق نشوب الحرب العالمية الثانية نشر نتائج التنقيب. ومع ذلك قامت البعثة بنشر تقرير أولي عن أعمالها عام 1940 وأعقبته بسلسلة من الأبحاث صدر أولها عام 1948 وآخرها عام 1986. وضمنها كتَابها نتائج التنقيب في حماة من العصر الحجري الحديث 5000ق.م حتى العصور العربية الإسلامية (العصر الأيوبي) فجمعت في ثناياها اللقى الأثرية الثابتة والمنقولة من أقدم طبقة وهي الطبقة M: العصر الحجري الحديث الذي اهتدى فيه الإنسان إلى صناعة الفخار وكانت صناعته فاتحة عهد جديد في استغلال الإنسان للطين والاستفادة منه في صناعة أدواته المنزلية. وجعله سلعه تجارية ينتجها حرفيون مستقلون لهم محالهم الصناعية التي تستوقف الناس لرؤيتها وخاصة طبقة التجار الذين حثوا ركبهم في الوصول إليها ليتاجروا بهذه المادة الجديدة التي تدر عليهم أرباحاً مجزية. وبهذه الطريقة وصلت إلى حماة أقدم الآنية الفخارية التي عرفت آنذاك في بلاد الشام وهي الآنية السوداء المصقولة اللامعة إن وجودها في هذه المدينة الوسطى دليل على ازدهار تجارة هذه الآنية، في كافة مناطق بلاد الشام. والذي يعزز هذه الظاهرة آنية أخرى مصنعة من مادة الجص البيضاء وعثر عليها أيضاً في حماة بهذه الطبقة مع الآنية الأخرى.‏

الطبقة L: لم تختف أو تتباطأ مساهمة حماة في بناء حضارة بلاد الشام فقد ساهمت أيضاً في انتشار ثقافة حلف والعبيد إبان الألف الرابع ق.م والتي تميزت بصناعة آنية فخارية عالية الجودة وذات زخارف متنوعة تعكس أحياناً بعض المعتقدات الدينية وسمو الإنسان في تفكيره بالبيئة وتنوعها من حوله .‏

الطبقة K: تظهر في هذه الطبقة الأدلة الدامغة على اشتراك حماة في صنع ثقافة العبيد التي تبرهن على لحمة المشرق العربي الثقافية خلال هذا العصر أيضاً وعصر الوركاء ونشوء الممالك خلال الألف الثالث ق.م الذي يتمثل بالطبقاتJ ـ K.‏

الطبقة J: تتزامن مع العصر الأكادي 2350 ـ 2150ق.م ومع مملكة إيبلا القديمة 2400 ـ 2300ق.م وإبانها أبدعت حماة نوع من الآنية تعرف باسم كؤوس حماة، مصنعة بتقانة محكمة ومزوقة بأشكال هندسية تدل على براعة الصانع في التوفيق بين شكل الكأس الاسطواني تقريباً والحزوز الدائرية الأفقية التي تزينه .‏

لم يكتشف في هذه الطبقات M ـ J على مباني عامة كالقصور والمعابد .بل كشف على بيوت عادية بسيطة شيدت أساستها بالحجارة وجدرانها باللبن. ولا نعرف عناصر تكوين سقوفها وأبوابها ونوافذها لأنها متهدمة. ويفترض أن سقوها من الخشب وربما أيضاً أبوابها ونوافذها. وإبان قيام الممالك الكنعانية الآمورية الأولى في بلاد الشام 2100 ـ 1600ق.م تبعت حماة إلى مملكة قطنة، التي سيطرت على أواسط بلاد الشام وكانت معاصرة لمملكة ماري على الفرات وفي الجزيرة،ومملكة يمحاض في حلب بين البليخ شرقاً وسواحل البحر المتوسط غرباً. وفي هذا العصر حققت هذه الممالك نمواً حضارياً راقياً وازدهاراً اقتصادياً شاملاً تشهد عليها الأوابد المعمارية في قطنة وماري ودور المحفوظات فيها. التي تفيدنا بأن علاقات تجارية قامت مع مصر وبلدان حوض المتوسط الشمالية وحتى آسيا الصغرى.‏

ولم يختلف الأمر إبان عصر الممالك الكنعانية الآمورية الثانية 1600 ـ 1200ق.م حيث كانت حماة تابعة لمملكة نعيا وعاصمتها قلعة المضيق في حوض العاصي.‏

وتتمثل حضارة هذا العصر والعصر الذي سبقه بالطبقات I ـ G التي حوت بقايا معمارية عادية بسيطة والمفيد أن البعثة الدانمركية لم تكشف إلا على أجزاء صغيرة جداً من مساحات هذه الطبقات لذلك بقيت معلوماتنا عنها ضحلة.‏

وعلى العكس من ذلك فإن العمل في الطبقتين E ـ F كان أوسع وأشمل وكشف عن مبانٍ هامة تعود إلى العصر الآرامي وقد ميزت الطبقة E عن الطبقة F تحتها بأسلوب إنشاء المباني والمواد المستخدمة. فقد شيدت جدران مباني الطبقة E الأحدث باللبن، في حين شيدت مباني الأخرى بالطين المدكوك. علماً أن مباني الطبقتين قد شيدت فوق بعضها ولا تفصل بينها سويات من . آخر.‏

وهذا ما نلاحظه أيضاً في عادات دفن الموتى التي لم تتغير في كلتا الطبقتين. زد على ذلك أن الأواني الفخارية التي وجدت في القبور هي ذاتها أيضاً في الطبقتين.‏

لقد كانت البقايا المعمارية في الطبقة F عبارة عن أجزاء أساسات لا تعطي صورة واضحة عن هياكل مبانٍ وقد ثبت من الكشف عن المبنى الثالث أنه كان قائماً في عصر الطبقة F، فتهدم وأعيد بناؤه أو رمم في عصر الطبقة E حيث بقيت بعض جدرانه القديمة في المبنى الأحدث وتغيرت أوضاع بعض المنحوتات مثل الأسود والنصب وهذا يشير بوضوح إلى استمرار العيش في هذه المدينة دونما انقطاع خلال عصر الطبقتين E ـ F وفي الختام بقي أن نشير إلى أن الطبقة F تعود إلى القرنين الحادي عشر والعاشر ق.م.‏

أحيت الطبقة E آمال المنقبين الآثاريين. بما حوته من بقايا أوابد معمارية تعطينا صورة واضحة وهامة عن الهندسة المعمارية وقتذاك. فقد كشف فيها على حارة تتألف من خمسة مبانٍ تعود إلى عصر ازدهار مملكة حماة الآرامية. وقد أقيمت على الطرف الجنوبي للتل فوق قمته. وتتوزع المباني 1 ـ 7 حول ساحة مركزية وبجانبها من جهة الغرب يقف المبنى الخامس معزولاً عنها. شيدت هذه المباني وفق أسلوب واحد. فكانت الأساسات أحياناً من الحجر والجدران من اللبن .كسيت بعض الجدران المختارة بلوحات حجرية ملساء غير مزوقة تحمل الهيكل الخشبي أو الحشوة الخشبية في الجدران. وقد جرى ترميمها وصيانتها أكثر من مرة حسب الدلائل المستقاة منها والتي نراها في المبنى الخامس ومن المفيد أن نذكر هنا أن الأواني الفخارية وخاصة الحمراء اللامعة. المنسوبة إلى العصر الآرامي قد عثر عليها أيضاً في المقبرة المكتشفة في الدور الثالث والرابع من المقبرة . فهي إذن من نفس العصر. هذه وغيرها من المكتشفات تجعلنا نعيد هذه الأبنية 1 ـ 7 إلى عصر الملكين اورخوليني وولده اوراتاميس ثم قام الملك ذاكر بترميمها وطبيعي أن يهتم الباحثون في التعريف بوظائف هذه المباني، بالاستناد إلى المعطيات والدلائل المتوفرة لديهم، أي التي حصلوا عليها أثناء عمليات الكشف فافترضوا أن المبنى رقم ـ1ـ هو بوابة المدينة بما فيه من قاعة للحرس. بينما يشكل المبنى الرابع مدخلاً جانبياً للقلعة. وجعلوا المبنى الثاني القصر الملكي، بينما كانت وظيفة المبنى الخامس منزل واحد من أعيان المملكة.‏

وكما هو المعتاد في الدراسات الأثرية قام باحث إيطالي «دي ميجرة»(3) بتحديد أدق لوظيفة هذه المباني فجعل من المبنى الأول مضافة يتناول فيها سكان القلعة الطعام. لأنه كان بداخلها أعداد كبيرة من أطباق الطعام الفخارية وكذلك أشياء أخرى تستخدم عادة في تحضير المواد الغذائية. بينما لم يعثر على أية شواهد أو دلائل عسكرية تحقق نظرية القول بوجود قاعة للحرس. ونظيف حيث أن أدوات الطعام قد وجدت في المبنى، فهذا لايمنع من القول بأن الحرس قد استخدموها في إعداد وجبات طعامهم. أما غياب أدوات قتالية وعدم العثور عليها في المبنى فربما سببه إخلاؤه من الجنود مع أسلحتهم قبل تدميره وفضلاً عن ذلك فإن وجود قاعة طعام عامة في الحي الملكي مستغرب ويتيم. وفي سياق الدراسة جعل (دي ميجرة) المبنى الثاني هو المبنى الرسمي لخزن وتوزيع الغلال والمنتجات التقنية الآلاتية وبالاستناد على ما عثر عليه من جرار كبيرة للخزن وأكواب فخارية أيضاً تصلح لأن تكون مكاييل للحبوب. وقد جعل أيضاً المبنى الثالث هو القصر حيث إن مدخله رائع وعثر بداخله على مقتنيات فاخرة وقيمة. وفي السياق ذاته جعل من المبنيين الرابع والخامس مستودعات: الأول للمواد الهامة القيمة والآخر للعادية وأما السكن فكان في الطابق العلوي. ويدل العثور على لبنتين سطر فيهما اسما ربين وكذلك بعض الأدوات المعبدية في المبنى المركزي تدل على وجود حرم عبادة هنا.‏

ومهما يكن من أمر فإن هذه المباني هي الحي الرسمي لسكن الملك وإقامة الأعيان والموظفين الذين يرعون شؤون المملكة.‏
ابوكابي م

العودة إلى ”مواقع ومدن تاريخية“